مقالات

«المجتمع المدني في إفريقيا: رافعة التنمية الغائبة… قراءة استراتيجية في الدور والتحديات واستلهام التجربة المصرية»

بقلم / رامي زهُدي
خبير الشؤون الإفريقية

في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه القارة الإفريقية على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يبرز دور المجتمع المدني كقوة ناعمة وفاعل غير حكومي له قدرة فريدة على اختراق عمق المجتمعات، وفهم احتياجاتها، وخلق جسور ثقة بين المواطن والدولة، وبين القارة وشركائها الدوليين. وقد أصبح واضحًا أن التنمية المستدامة في إفريقيا لا يمكن أن تتحقق بمعزل عن إشراك فاعل للمجتمع المدني بجميع مكوناته: الجمعيات الأهلية، المبادرات الشبابية، النقابات، الاتحادات، والمراكز البحثية.

وعبر ملامح الدور الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني في القارة الإفريقية، والتحديات التي تواجهها، تتوافر فرص تعزيز هذا الدور، بينما يمكن استلهام التجربة المصرية كنموذج رائد في تفعيل المجتمع المدني كأداة من أدوات التنمية الشاملة والمستدامة.

فبحسب تقرير الاتحاد الإفريقي لعام 2023، تضم القارة ما يزيد عن 150,000 منظمة مجتمع مدني مسجلة رسميًا، تتنوع بين جمعيات تنموية، ومؤسسات بحثية، ومنظمات حقوقية، وكيانات شبابية ونسائية، إلا أن أكثر من 60% من هذه الكيانات تتركز في خمس دول فقط إضافة الي مصر وهي دول (جنوب إفريقيا، كينيا، نيجيريا، السنغال، إثيوبيا)، بينما تعاني باقي الدول من ضعف في البنية القانونية والمؤسسية التي تضمن حرية وحيوية هذا القطاع وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن أقل من 12% فقط من إجمالي المساعدات الدولية الموجهة للتنمية في إفريقيا تمر عبر منظمات المجتمع المدني، بينما تذهب النسبة الأكبر إلى الحكومات أو الجهات الدولية، ما يُضعف من قدرة المجتمع المدني على التأثير.

ورغم كل التحديات يظل المجتمع المدني هو مفتاح التنمية الإفريقية، حيث أن منظمات المجتمع المدني تمتلك مرونة أكثر من الجهات الحكومية، مما يمكنها من العمل في البيئات الهشة والنائية، كالمناطق المتأثرة بالنزاعات، والقرى الفقيرة، والمجتمعات الحدودية.

كما، تلعب المنظمات المدنية دورًا رقابيًا على تنفيذ المشروعات، وتحقيق العدالة في توزيع الموارد، ومكافحة الفساد المحلي، وكذلك تساهم هذه المنظمات في تعزيز الثقة بين المكونات المجتمعية، وتنمية الوعي بالمواطنة، ومكافحة التطرف، وتوفير منصات الحوار، ربما لأنها تعتبر قناة بديلة للدبلوماسية الشعبية، حيث تسهم في جذب التمويل، ونسج شراكات تنموية متعددة الأطراف.

وفي ذات الإطار، تبرز التجربة المصرية كنموذج رائد في تفعيل المجتمع المدني، فقد استطاعت مصر خلال العقد الأخير، وتحديدًا منذ إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في الفترة من 2021 وحتي 2026، أن تحدث نقلة نوعية في منظومة المجتمع المدني، وفق رؤية متكاملة للدولة تؤمن بأن التنمية لا تكتمل بدون تكامل بين المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني والقطاع الخاص.

فكان عام المجتمع المدني المصري في العام 2022، حيث تم إعلان القيادة السياسية تخصيص عام كامل لدعم وتمكين منظمات المجتمع المدني، كان رسالة واضحة على أهمية هذا الدور.

كما أن أكثر من 55 ألف جمعية مسجلة رسميًا وفق قانون 149 لسنة 2019، تعمل في مختلف مجالات الصحة والتعليم والتنمية الريفية وحقوق المرأة.

وكذلك الحدث المهم جدا والمؤثر في العمل المدني بإطلاق التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي، الذي يضم أكثر من 30 كيانًا مدنيًا، ونجح في الوصول إلى 20 مليون مواطن في عام واحد فقط من خلال مبادرات مثل “حياة كريمة”، و”ستر وعافية”، و”قوافل نور الحياة”.، مع الوضع في الإعتبار والتقييم أن مبادرة حياة كريمة هي المبادرة التنموية الاكبر والأبرز عبر تاريخ العمل التنموي سواء في مصر او في المنطقة العربية والقارة الإفريقية.

كذلك شهدت مصر إنشاء منصات حوارية دورية بين الحكومة والمجتمع المدني في إطار مؤسسي من خلال مؤتمرات الشباب والحوارات المجتمعية.

وبالتالي حمل التجربة المصرية دلالات مُلهمة،كان منها دمج المجتمع المدني في منظومة اتخاذ القرار التنموي، وتقديم نموذج أفريقي في الحوكمة التشاركية.

إضافة إلي تحويل المنظمات من كيانات رعوية إلى شركاء إنتاج وتنمية، بالتوازي مع تبني منهجية الانتقال من العمل الخيري إلى العمل التنموي المستدام.

ورغم كل ماسبق من مؤشرات إيجابية،إلا أن العديد من الدول الإفريقية لا تزال تفرض قيودًا صارمة على تسجيل المنظمات، وتلقي التمويل، والتحرك الميداني.

كما يظهر بوضوح اعتماد معظم المنظمات على التمويل الأجنبي وهو أمر قد يهدد الاستدامة، ويثير شبهات التدخل الأجنبي في بعض الحالات.

إضافة إلي غياب الحدود الواضحة بين المدني والسياسي في بعض الدول أدى إلى تأزيم العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني.

ونضيف علي ذلك ضعف البنية المؤسسية والكوادر البشرية، فالكثير من الكيانات تفتقر إلى الخبرات الفنية، وإدارة المشاريع، والتخطيط الاستراتيجي.

بخلاف الانقسامات العرقية والدينية والسياسية، والتي تضعف من فرص التوافق على أهداف تنموية موحدة بين مكونات المجتمع المدني.

وبصفة عامة، واستنادًا إلى الخبرات الإقليمية، وخاصة التجربة المصرية، يمكن وضع عدد من التوصيات المؤثرة مثل تحسين البيئة التشريعية من خلال سن قوانين تدعم حرية التنظيم، وتبسط إجراءات التسجيل، وتُتيح التمويل بشفافية. والعمل علي بناء قدرات المنظمات المحلية عبر التدريب، والتوأمة مع منظمات كبرى، وتقديم حوافز ضريبية وتشريعية، وكذلك السعي نحو دعم الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني عبر مجالس تنموية مشتركة، ومنصات وطنية للتنسيق والتخطيط.

وتعزيز التمويل المحلي من خلال صناديق وطنية للتنمية، وإشراك القطاع الخاص في دعم المبادرات المجتمعية، وخلق شبكات إقليمية عابرة للحدود تعمل على تبادل الخبرات، وتوحيد الجهود لمواجهة التحديات المشتركة، وخاصة في مجالات الصحة والتعليم والمناخ.

ومن الأمور بالغة الأهمية التركيز علي رقمنة المجتمع المدني لتحسين إدارة البيانات، وتوسيع التأثير، والوصول إلى الشرائح الشابة والريفية.

وبالتالي ومع اعتماد أجندة الاتحاد الإفريقي 2063، التي تتبنى نهجًا تشاركيًا، تزداد أهمية المجتمع المدني كأداة لتحقيق التكامل الإفريقي، خاصة في تعزيز مبادرات التنمية الحدودية، ونشر ثقافة السلم المجتمعي ومواجهة النزاعات.

وأيضا، رفع الوعي بالتغيرات المناخية.، والعمل علي تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs).

وكذلك دعم التكامل الثقافي والتعليمي والشبابي بين الدول.

وقد بات من المهم أن نُشرك المجتمع المدني في صياغة السياسات القارية لا أن يقتصر دوره على التنفيذ فقط،حيث أن التنمية في إفريقيا لن تتحقق فقط عبر القمم السياسية، أو التمويلات الدولية، أو المشروعات العملاقة، بل عبر الإنسان، وهذا الإنسان لن تصله التنمية ولن يشارك فيها دون منظمات قوية، تفهم لغته وهمومه، وتترجم آماله إلى برامج عمل.
لإننا بحاجة إلى “مجتمع مدني تنموي، إفريقي الانتماء، شريك في القرار، وقادر على الاستدامة”. والتجربة المصرية تقدم نموذجًا واقعيًا لما يمكن تحقيقه إذا وُجدت الإرادة، وتكاملت الأدوار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
Sabung Ayam Online Live Draw Sgp Live Casino Online Mahjong Ways Judi Bola Online Sabung Ayam Online Sbobet88 Live Draw Hk Live Casino Online Mahjong Ways Judi Bola Online Sabung Ayam Online Sabung Ayam Online Live Casino Online Live Casino Online Judi Bola Online Mahjong Ways 2 Judi Bola Online Sv388