مقالات

«في المعارضة الإصلاحية الرشيدة المسؤولة»: “لنا في اختلاف الرأي حياة ووجود”

بقلم / رامي زُهدي
مُساعد رئيس حزب الوعي، عضو مجلس أمناء كتلة الحوار

في زمن تتزايد فيه التحديات وتتسارع فيه المتغيرات، يصبح اختلاف الرأي ليس فقط ضرورة ديمقراطية، بل أداة للبقاء الوطني، ومنهجًا للبناء المؤسسي، وقاطرةً لتصحيح المسار. إن المجتمعات التي تقبل التعددية وتحتضن الأصوات المتنوعة، هي المجتمعات التي تملك مناعة فكرية، وقدرة على التجدد، ومجالًا أرحب للنهضة المستدامة.

وحين نتحدث عن “المعارضة”، فإننا لا نقصد تلك الحالة الفوضوية، أو النزعة السلبية، أو الهجوم من أجل الهجوم؛ بل نتحدث عن “المعارضة الإصلاحية الرشيدة”، تلك التي تضع الوطن فوق الحسابات، وترى أن واجبها الأول هو تقديم البدائل لا إطلاق الشعارات، والمشاركة في البناء لا تقويض الأركان.

المعارضة الوطنية الرشيدة لا تُعارض الأشخاص، بل تُقيّم السياسات؛ لا تسعى لإفشال الحكومات، بل تعمل على تصويب أدائها، وتُظهر الخطأ لا لتصيد الزلات، بل لتقديم مسارات أكثر نجاعةً وإنصافًا. وهي في جوهرها، ضمير الأمة، ومحرّك الوعي الشعبي، وحارس التوازن بين السلطات، ودرعٌ واقٍ ضد الاستبداد والجمود.

وعبر فلسفة الشك البنّاء، أرى أن كل مؤيد لقضية أو لشخص، مهما بلغ اقتناعه، ينبغي أن يحمل في داخله قدرًا من الشك الإيجابي، ذاك الشك النبيل الذي لا يهدم القناعات، بل يُبقيها في حالة مراجعة دائمة. فالمعارضة الرشيدة لا تنطلق من نزعة هدم، بل من شرف الإسهام في تقويم المسار. إنها ممارسة نقدية قائمة على المنطق، وعلى التقدير الموضوعي للمواقف والسياسات، وليس على الخصومة أو المناكفة.

ليس كل من نؤيده معصومًا من الخطأ، ولا كل من نختلف معه عدوًا للحق. وفي المشهد السياسي، من الخطأ أن نُقسم الساحة إلى ملائكة وشياطين؛ فالمعارضة الجادة تدرك أن الحقيقة موزعة بين الأطراف، وأن إدراكها لا يتم إلا من خلال الحوار والنقاش وتعدد الزوايا.

ومن الجمود إلى التواز، من يقف في خندق التأييد المطلق أو المعارضة المطلقة، لا يخدم وطنًا ولا يرقى بفكر. بل يُعطل الآليات الديمقراطية التي تقوم على مبدأ الرأي والرأي الآخر. أما العقل النقدي الناضج، فهو الذي يُنصت ويُحلل ويُراجع، ثم يُقرر على بينة. وهذا هو جوهر الفكر الإصلاحي، الذي لا يستبدل اليقين بالتبعية، ولا يحوّل الخلاف إلى خصومة.

في مصر، وفى العالم العربي كله، نحن بحاجة مُلحّة إلى إعادة تعريف “المعارضة” في وعي الشعوب والحكومات معًا. فالمعارض الوطني ليس خائنًا، كما أن المؤيد ليس مطبّلًا او عازفاََ بالضرورة. إنما هو اختلاف في التقدير والرؤية والوسائل، تحت مظلة الوطن الواحد، وداخل أطر الشرعية السياسية والدستورية.

تُبنى المعارضة الوطنية بثبات وعلم وثقة ويقين ان الوطن أكبر وأهم من الجميع،تُبنى المعارضة الإصلاحية على أربع ركائز رئيسية، اولها البدائل القابلة للتطبيق، فالمعارضة الرشيدة لا تكتفي بالنقد، بل تطرح رؤى متكاملة مدعومة بالأرقام، والبرامج، والحلول الواقعية.

ثم، الموضوعية والاتزان، حيث لا تنزلق إلى الشعبوية أو التحريض، بل تنأى عن الاستقطاب وتُبقي على نبرة عقلانية رصينة.

وكذلك الالتزام الوطني، فلا تُفرّط في ثوابت الدولة، ولا تُسيء إلى الرموز الوطنية، ولا تستقوي بالخارج على الداخل.

وأخيراَ المؤسسية والمشاركة، حيث تناضل من داخل المؤسسات، وتؤمن بالإصلاح عبر الآليات الدستورية، لا عبر الفوضى أو التجييش العاطفي.

قد يرى البعض أن “المعارضة” دورها سلبي أو هامشي، لكن الحقيقة أنها شريك أصيل في صناعة القرار حين تتوافر الإرادة السياسية المنفتحة، والثقافة الديمقراطية الراسخة. إن الرقابة البرلمانية، ووسائل الإعلام الحرة، والمجتمع المدني الواعي، كلها أدوات معارضة وطنية إن أُحسن توظيفها.

بل إن أعظم القرارات السياسية أحيانًا، تولد من رحم النقد العميق، والتقويم الحاد، والضغط الأخلاقي الذي تمارسه المعارضة، حين تتسلح بالمسؤولية والشفافية.

وفيما بين التنازع والتكامل، تطل علينا الحياة السياسية ليست في شكل او جوهر ميدانًا للتصارع الدموي، بل حلبة للتكامل في الأدوار. الحكومة تُنفذ، والمعارضة تُراجع. الحكومة تضع السياسات، والمعارضة تقيس أثرها وتقترح تحسينها. ولو اختفى هذا التوازن، لاختل البناء كله.

وهنا أؤكد أن المعارضة لا تهدف إلى إسقاط الدولة، بل إلى رفع كفاءتها. وهي حين تنتقد، فإنها تفعل ذلك من موقع الإخلاص، لا العداء؛ ومن باب الواجب، لا النكاية.

وإننا لا نتحدث هنا عن معارضة نخبوية في قاعات البرلمان أو صالات الحوار السياسي فقط، بل عن ثقافة مجتمعية يجب أن تسري في وعي الناس جميعًا. أن تختلف في الرأي مع مسؤول أو جهة ما، لا يعني أنك ضد الدولة. أن تنتقد أداءً حكوميًا، لا يعني أنك تغدر بالوطن.

المجتمعات المتحضرة تُنشئ أبناءها على احترام الرأي الآخر، والاستماع قبل الحكم، والمراجعة قبل التصنيف.

“ولنا في اختلاف الرأي حياة ووجود”، لأن الرأي الواحد ليس دليلاً على الوحدة، بل ربما على الخوف أو القمع أو غياب البدائل. أما تعدد الآراء في ظل احترام متبادل، فهو دليل على عافية فكرية، ووعي سياسي، ومسار ناضج نحو الديمقراطية.

فلتكن معارضتنا عقلانية، إصلاحية، مبنية على البدائل لا التناحر، وعلى الحب للوطن لا الغضب عليه. ولتكن ثقافتنا في الاختلاف، أداةً للبناء لا للهدم، وللارتقاء لا للإقصاء.

وإن الوطن الذي يحتضن معارضيه قبل مؤيديه، هو وطن آمن، قوي، متماسك، لا تهزه العواصف، لأنه ببساطة… يُدار بعقل جماعي، لا بقبضة واحدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
Sabung Ayam Online Live Draw Sgp Live Casino Online Mahjong Ways Judi Bola Online Sabung Ayam Online Sbobet88 Live Draw Hk Live Casino Online Mahjong Ways Judi Bola Online Sabung Ayam Online Sabung Ayam Online Live Casino Online Live Casino Online Judi Bola Online Mahjong Ways 2 Judi Bola Online Sv388