غزة التاريخية… مدينة الجذور والصمود

بقلم: جمال سالم
رئيس الهيئة الفلسطينية للثقافة والفنون والتراث
في الزاوية الجنوبية من الساحل الشرقي للبحر المتوسط، تنهض غزة، تلك المدينة العريقة، التي لا تُعرَف فقط بجراحها المعاصرة، بل بتاريخها الموغل في القِدم، ومكانتها كمفترق طرق للحضارات، وملحمة صمود متواصلة منذ آلاف السنين.
بين الرمل والبحر… ولدت غزة. غزة ليست وليدة اليوم، بل وُلدت منذ أكثر من 5,000 عام، وكانت عبر العصور واحدة من أقدم مدن العالم المأهولة بالسكان. ذُكرت في النصوص الفرعونية والبابلية، وتجلّت في خرائط الرومان، وأحاطت بها جيوش الفاتحين من الشرق والغرب.
تحت أقدام سكانها اليوم، ترقد طبقات من التاريخ. من معابد كنعانية، إلى حصون رومانية، مروراً بمساجد أموية وصليبية ومملوكية. فيها، لا تتوقف الأرض عن الحكي، ولا تسكت الأحجار عن البوح.
مهد التجارة والربط الحضاري
بحكم موقعها الجغرافي، كانت غزة مركزاً تجارياً استراتيجياً. على الطريق التجاري القديم المعروف بـ”طريق البحر”، الذي ربط مصر ببلاد الشام، أصبحت غزة بوابة الشمال والجنوب. منها عبر التجار والتوابل والحرير، ومعهم أفكار وثقافات وشعوب.
غزة في العصور الإسلامية
مع الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، دخلت غزة مرحلة جديدة من الأهمية، لا سيما أنها كانت محطة رئيسية للعلماء والمسافرين. فيها وُلد الإمام الشافعي، أحد أئمة الفقه الإسلامي، ليجعل من غزة اسماً يرافق الحضارة الإسلامية في كل كتاب.
غزة الحديثة… بين الحصار والصمود
في القرن العشرين، عانت غزة الكثير. من الاحتلال البريطاني، إلى النكبة عام 1948، فالنكسة عام 1967، ثم الحصار المتواصل منذ عام 2007. لكنها، كما عرفها التاريخ، لم تنحنِ. أصبحت غزة رمزاً عالمياً للمقاومة، ووجه الإنسانية المُحاصَرة، التي تُبدع في الحياة رغم الألم.
في شوارعها، لا تَخفُت ضحكة الأطفال، ولا تغيب رائحة الخبز، ولا تتوقف الأغاني الشعبية. غزة لا تعيش فقط على الذكريات، بل تزرع كل يوم بذرة أمل في تربةٍ تعرف جيداً معنى الصبر.
غزة ليست مجرد قضية
غزة ليست مجرد “قضية سياسية” تُطرَح في المؤتمرات أو تُناقَش على طاولات الأمم. إنها حكاية شعب، وتاريخ مدينة، ورسالة إنسانية باقية. من أراد أن يفهم الشرق، فليقرأ غزة. ومن أراد أن يرى معنى الإرادة، فلينظر في عيون أطفالها.
غزة التاريخية لا تحتاج من يُبكي لأجلها، بل من يُنصِت لحكايتها، من يرى خلف الدمار ملامح مدينة أقدم من الجدران، وأقوى من الحصار. إنها غزة التي كانت وما زالت، رغم كل شيء، قلب الشرق النابض بالحياة.