من داخل غرفتي إلى قلب الوطن: رحلة في الذاكرة والواقع

الحلقة الأولى من كتاب
“شاهد من أهلها: سيرة من الضفة الأخرى”
بقلم العميد/ خالد سلامة
الخبير الأمني
انفراد جديد… يكشف كواليس وأسرار تُروى لأول مرة
فقط على “الجسر”… منصة تعبر معك إلى المستقبل.
“جميع الأحداث والشخصيات والوقائع والتواريخ الواردة في هذا الكتاب حقيقية وموثقة، وقد حدثت بالفعل على أرض الواقع. وقد تم ذكر بعض الشخصيات بأسمائهم الصريحة، بينما تم الإشارة إلى آخرين باستخدام الحروف الأولى من أسمائهم حفاظًا على الخصوصية.”
مشاهدة مسلسل.. وبداية كتاب
تناولت إفطاري وشربت قهوتي وسيجارة تلو الأخرى، وأنا جالس في انتظار مشاهدة مسلسل “الاختيار 2” كعادتي منذ بداية رمضان، لعلمي أن هذا الجزء سيتناول الفترة التي أعقبت ثورة 30 يونيو 2013.
كانت الحلقة السابعة تحديدًا، والتي تناولت الاستعدادات لبداية فض اعتصامي رابعة والنهضة، شعرت بأنني دخلت في الأحداث رغم أنني أشاهد المسلسل من داخل غرفتي الخاصة بسريرها ومكتبها وكرسي الجلوس والطاولة.
كنت على يقين أنني في غرفتي بعيدًا عن أي مصدر إزعاج، لكنني كنت على يقين أيضًا بأنني أتحرك داخل الأحداث. ومن حسن الحظ أن الحلقة كانت دون أية فواصل إعلانية، مما أعطاني القدرة على معايشة كل ما يدور حولي داخل المسلسل.
لم تكد الحلقة تنتهي حتى توجهت إلى مكتبي وأوراقي، وبدأت في كتابة أول سطر من هذا الكتاب… وهكذا كانت البداية.
ذكريات وميراث من الوطنية
عدت بالزمن إلى الوراء أعوامًا وأعوامًا. أنا من أسرة مصرية، عائلها والدي، رحمه الله، والذي كان يعمل موظفًا كبيرًا بوزارة الخارجية، وتحديدًا بالإدارة العامة للأمن. وقد كان لهذا المنصب دور كبير في تعرفه على الكثير من القيادات الذين أصبحوا فيما بعد من كبار المسؤولين وصنّاع القرار، أو كما يُقال “كبار رجال الدولة”.
كان والدي رحمه الله شخصية عظيمة، لا أجد من الكلمات أو الأوصاف أو حتى المفردات ما يفي بحقه أو مكانته. بحر من الطيبة والكرم، وجبل من الأخلاق والحكمة، ومحيط من الثقافة والوعي، وكثير من خفة الظل والروح والبساطة، بالإضافة إلى سمته الرئيسية، حبه الشديد لوطنه وأهله. لقد كان إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ونموذجًا ورمزًا لا تحده الحدود.
الوعي الوطني.. في جينات الأبوة
غرس أبي رحمه الله الوطنية داخل روحي وعقلي وسلوكي منذ الصغر، وأعطاني مفاتيح الفهم لإدراك قدر مصر وقوتها ومركزيتها في العالم كله قديمًا وحديثًا. وكان دائمًا ما يقول لي:
“العين دايمًا على مصر، والكل عارف أهميتها. في حاجات كتير المصريين عارفينها عن بلدهم، بس في حاجات أكتر ما يعرفوهاش، للأسف”.
واقعة دمشق.. وحدس الخطر
أذكر مرة، حكى لي والدي عن الفترة التي كان يعمل بها في سفارتنا بدمشق عام 1977، وذلك أثناء زيارة الرئيس السادات الشهيرة إلى تل أبيب. وفي طريق عودة الرئيس من زيارته قرر الذهاب إلى سوريا لزيارة رئيسها آنذاك حافظ الأسد، وقد زار السفارة المصرية بدمشق واجتمع بأعضائها.
كانت تلك الفترة من أصعب فترات العلاقة بين مصر وباقي الدول العربية، وبعد إلقاء الرئيس خطابه الشهير في الكنيست، وزيارته للسفارة المصرية في دمشق، شعر والدي أن شيئًا ما سيحدث.
بالفعل، وبمجرد مغادرة الرئيس السادات لمطار دمشق، ذهب والدي إلى السفير حسن عيسى وتحدث معه عن إحساسه بقرب وقوع أمر خطير. خرجا معًا للتحدث خارج مبنى السفارة، وما هي إلا دقائق حتى انفجر مبنى السفارة المصرية. ولله الحمد، لم تحدث إصابات كبيرة، لكن الرئيس السادات أصدر قراره الفوري بعودة السفير وجميع أعضاء السفارة إلى القاهرة.
السفير المنسي.. وبطل طابا
رحمة الله على السفير حسن عيسى، لقد كان واحدًا من الأبطال الكبار المنسيين – للأسف – في مفاوضات طابا. هو أول قنصل لمصر في إيلات، تعلم اللغة العبرية بطلاقة لتجنب خداع إسرائيل، وتعرض لمحاولات اغتيال متكررة في بيروت ودمشق، كما شغل منصب مدير إدارة إسرائيل بوزارة الخارجية، ثم مساعدًا لوزير الخارجية.
وكان مثالاً للوطنية والشجاعة. أذكر أنه شغل منصب رئيس مجلس إدارة جمعية “الشرطة والشعب لمصر”، إيمانًا منه بأهمية تحسين العلاقة بين الطرفين، كما شارك في عدد كبير من المؤتمرات الجماهيرية بين مسؤولي الأمن في المحافظات المختلفة والمواطنين. وقد كان لهذه الجمعية الفضل في عملي على استمراريتها وإنشاء ائتلاف منها لتدعيم وتقوية العلاقة بين الشعب والشرطة في الفترة التي تلت 30 يونيو، إيمانًا مني بقوة وأهمية هذه الفكرة، كما سيأتي في سياق ما سأحكيه من أحداث ووقائع.
رحلات الأب وسحر المعارف
سافر والدي إلى العديد من دول العالم نظرًا لطبيعة عمله، واحتك بثقافات وأفكار وعادات من دول عربية وغربية وآسيوية وأوروبية وأفريقية، ما أثقل شخصيته وجعلها فريدة.
كان لهذا التنوع تأثير كبير عليه، كما أثر تباعًا في كل من حوله، وأنا أولهم. كانت زياراتنا – أنا وأبي – إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب زيارة أساسية سنويًا. نشتري الكتب ونتقاسمها بالنصف، وعندما ينتهي أحدنا من كتاب يعطيه للآخر لكي يقرأه، وبذلك نكون قد قرأنا سويًا جميع الكتب التي اشتريناها.
كانت الكتب متنوعة من مختلف العلوم والمجالات: سياسية، اجتماعية، ثقافية، معلوماتية، فلسفية، عربية ومترجمة، دراسات وأبحاث، ومجالات متخصصة.
رحلة إلى ألمانيا.. درس في الوطنية
أذكر عندما سافرت معه إلى ألمانيا، شاهدت عن قرب كيف يتعامل والدي مع أعضاء السفارة ومع ضيوفها من الجنسيات الأخرى. تابعت طريقة كلامه وتصرفاته وأدائه لعمله بدقة، وأسلوبه في إرساء مبادئ حب الوطن وتقديمها على كل شيء.
في هذه الزيارة، تعلمت أن أكون في كل مقابلاتي أو تعاملاتي – مع أي شخص، مصري أو غير مصري – فخورًا ومعتزًا بمصريتي، ومحبًا لهذا البلد، وغيورًا بشدة في دفاعي عنه وعن مصالحه. فمصر بتاريخها وحضارتها وثقافتها وقوتها أثرت في العالم أجمع.
ذكريات في المستشفى.. ولقاءات مؤثرة
لقد أتاح لي عمل والدي في وزارة الخارجية مشاهدة أحداث كثيرة والتعامل مع شخصيات كبيرة عن قرب، حتى من خارج مجالي وزارتي الداخلية والخارجية.
حين تعرض والدي لوعكة صحية وكان لابد من إجراء جراحة عاجلة، ذهبنا إلى مستشفى الدكتور إبراهيم بدران. تم حجز والدي استعدادًا لإجراء الجراحة، وإذا بي أشاهد ملاكًا في صورة رجل يدخل علينا الغرفة: رجل هادئ متزن، جميل الطلعة، مبتسم، مع وقار يبث فيك الطمأنينة.
سألت أمي عن الرجل، فقالت إنه الدكتور إبراهيم بدران وزير الصحة الأسبق. تحدث إلى والدي مبتسمًا: “إيه يا محمود.. عجّزت ولا إيه؟” فأجابه والدي: “مش عارف يا دكتور، حضرتك اللي هاتقولّي”. ابتسم الدكتور بدران وقال: “لا حبيبي.. الموضوع بسيط وهاتخرج على طول.. إحنا مش عايزينك معانا هنا”.
ابتسم والدي مغالبًا آلامه: “ولا أنا والله يا دكتور إبراهيم”.
بعد أن تمت الجراحة بنجاح، لم ينقطع الدكتور إبراهيم بدران عن زيارة والدي للاطمئنان عليه حتى عاد إلى المنزل معافى بفضل الله.
شخصيات من الذاكرة.. وصور لا تُنسى
خلال وجود والدي في المستشفى، رافقه عمي طيلة الوقت تقريبًا، وفي أحد الأيام، أحسست بوجود حالة استعداد غير عادية داخل المستشفى، وإذا باللواء زكي بدر، وزير الداخلية، يدخل للاطمئنان على أبي ومعه عدد من قيادات الوزارة.
تحدث مع أبي وعمي بمحبة وود. لم تكن هذه هي المرة الأولى ولا الأخيرة التي أرى فيها اللواء زكي بدر: هذا الرجل القوي ذو الهيبة الشديدة وخفة الدم المحاطة بوقار كبير. لم يمكث طويلًا، لكن حضوره كان له تأثير كبير عليّ.
توالى حضور الكثير من قيادات وضباط وزارة الداخلية إلى غرفة والدي، كما حضر كثير من السفراء للاطمئنان عليه. ولعل من أهم من أثرت زيارته بي شخصيًا هو السفير عمرو موسى، الرجل اللبق الهادئ، صاحب الجاذبية القوية.
ظل يتحدث مع والدي وعمي في موضوعات عديدة، وأنا أنظر إليه بإعجاب شديد.
لقاء استثنائي.. حبيب العادلي
لم تكد زيارة السيد عمرو موسى تنتهي حتى دخل ضابط هادئ الملامح، بنظرة ثاقبة براقة، لزيارة والدي. كان قليل الكلام، متزنًا، تحدث مع والدي عن انتظار يوم خروجه من المستشفى لكي يجلس معه لتنسيق بعض الأمور الخاصة بالعمل، خاصة بعد صدور قرار بسفره مندوبًا لمصر في سفارتها بدولة الكويت.
حديث هذا الضابط الكبير مع والدي، وطريقته، وأسلوبه، ونظراته، جعلوني أهتم به بشكل خاص وأنظر إليه بشكل مختلف – لعله لاحظ ذلك – حيث كان ينظر إليّ ويبتسم.
عندما غادر المستشفى، سألت والدي عنه، فقال إنه اللواء حبيب العادلي، الذي رُقّي حديثًا إلى رتبة اللواء بجهاز مباحث أمن الدولة.
نهاية البداية.. ووصية الأب
كل تلك الأحداث والمواقف والأشخاص أثرت فيّ بشكل مباشر، وكان لها عامل هام جدًا في تكوين شخصيتي وأفكاري ومستقبلي. رجال قابلتهم، وتحدثت معهم، وسمعت عنهم ومنهم من والدي، في وقت كانت شخصيتي تتكوّن، وأفكاري ومبادئي تتجهز وتتعمق.
وقد آثرت أن أفتتح بهم حديثي، لعظم أثرهم في هذا التكوين.
ولا أزال أذكر أن والدي رحمه الله أوصاني قبل انتقاله بساعات أن أكتب في النعي الخاص به: “الشريف محمود محمد سلامة” دون أية ألقاب أخرى، لاعتزازه الشديد بأننا من الأشراف.
وذكّرني لحظتها أن ذلك، بالإضافة إلى كونه شرفًا، فهو أيضًا مسؤولية كبيرة جدًا. ثم أكد على الاكتفاء بلقب “الشريف”، لأنه عنده أكبر وأهم وأعلى من كل الألقاب.