مقالات

الطمع.. قلّ ما جمع

بقلم: بسنت عثمان
إعلامية وروائية
عضو اتحاد كتاب مصر
أمين عام مؤسسة عدالة ومساندة المرأة المصرية

لم أعد أدرك بدقة، ما الذي يدفع البعض لارتكاب الجرائم والانحرافات، أو للتحايل والنصب وانتحال الصفات والهوية.
في الماضي، كنا نربط هذه السلوكيات بالفقر والجهل والعوز، وكنّا نظن أن الظروف القاهرة تخلق المجرم، وأن الحاجة قد تدفع الإنسان إلى الكذب أو الاحتيال أو السرقة. تربينا على هذا المنطق، وورثناه مع كثير من الأفكار والعادات القديمة.

لكن المشهد الآن تبدّل. اختلط الحابل بالنابل، وضاعت الحدود، وتغيّرت الأدوار.
لم نعد نرى المجرم كما اعتدنا عليه — شخصًا مسحوقًا، مقهورًا، محتاجًا.
بل أصبحنا نرى أن من يقبل على ارتكاب الجريمة، بل ويُبسّطها، ويُجمّلها في عيون الآخرين، هم من يملكون المال والشهرة والعلاقات والنفوذ!
صرنا نشاهد الطمع والغيرة والمكايدة والحسد، بكل فجاجتهم، ينفجرون في أوساط النخبة وأهل الثراء.

والأغرب، بل والأعجب، أن القيم والمبادئ والترابط الإنساني، باتت تُرى بشكل أوضح وأجمل بين الأسر البسيطة، الأكثر احتياجًا، ممن يعانون من الفقر وأحيانًا الجوع.

أما النخبة؟ فقد استساغت الإسفاف.
بات المشاهير يرتكبون زلات وأخطاء بل وفضائح على الملأ، ثم يُختلق لهم الأعذار، وتُختزل جرائمهم في “ظروف نفسية صعبة” أو “تعب عصبي”، وكأن القانون لا يطال من لهم متابعون كُثر على منصات التواصل.

صرنا نحترف تبرير الخطأ، وتزيين القبح.
من ينتحل صفة غيره، يُلقب بأنه “فهلوي” أو “غلبان اتزنق”.
من يسرق مجهود الآخرين، يوصف بأنه “استلهم” أو “تأثر”.
من يتجاوز بالألفاظ القبيحة، يُدعى أنه “عفوي”، أو “طيب زيادة عن اللزوم”.
حتى من يعتدي على الأخلاق والذوق العام، ويظهر بملابس نسائية على الشاشات، يُروّج له باعتباره “ظاهرة فنية”!

نحن في سيرك كبير، بلا بوابة خروج.
نرى “فنًّا” بلا فن، وصراخًا بلا مضمون، وأغنيات مليئة ببذاءة متعمّدة، تتسلل إلى آذان الصغار والكبار دون رقيب.
وفي المقابل، يصبح العالم الحقيقي، والعلماء الحقيقيون، خبرًا هامشيًا في نهاية النشرة، أو فقرة باهتة في منصة مهجورة.

وتحت لافتة “إذا أُمنت العقوبة، أُسيء الأدب”، نعيش الآن عصرًا قليل الأدب، قليل الأخلاق، قليل المبادئ.
عصر نادر فيه الحياء، وغزير فيه الادعاء.
ووسط كل هذا، لا زلت مؤمنة أن “الطمع قلّ ما جمع”، وأن السقوط الأخلاقي، مهما طال، له نهاية.

والمفارقة القاسية…
أننا لم نعد نرى الجريمة إلا حين يرتكبها المشاهير،
ولم نعد نرى الفضيحة إلا حين تُعرض على الملأ،
بينما البسطاء يواجهون الحياة وحدهم، ويدفعون ثمن أخطاء لم يرتكبوها،
ويحلمون فقط بألا تُنتهك كرامتهم في هذا الضجيج.

ويبقى السؤال المرير:
متى يعود للحق هيبته؟
ومتى نُعيد تعريف القدوة، لا بناءً على عدد المتابعين، بل بناءً على القيمة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Sabung Ayam Online Live Draw Sgp Live Casino Online Mahjong Ways Judi Bola Online Sabung Ayam Online Sbobet88 Live Draw Hk Live Casino Online Mahjong Ways Judi Bola Online Sabung Ayam Online Sabung Ayam Online Live Casino Online Live Casino Online Judi Bola Online Mahjong Ways 2 Judi Bola Online Sv388