“الجذر.. حيث تبدأ الحكاية” .. “شاهد من أهلها: سيرة من الضفة الأخرى”

الحلقة الثانية من كتاب
“شاهد من أهلها: سيرة من الضفة الأخرى”
بقلم العميد/ خالد سلامة
الخبير الأمني

انفراد جديد… يكشف كواليس وأسرار تُروى لأول مرة
فقط على “الجسر”… منصة تعبر معك إلى المستقبل.

الحلقة الثانية:
الأم.. والقدوة الأولى

لا تبدأ الحكاية من بطلها، بل من جذوره.
وحين تكون الأم هي الجذر، تكون الحكاية أنبل وأقوى.

لا أستطيع أن أذكر والدي دون أن أذكر أمي — أطال الله في عمرها وبارك في صحتها — فقد كانت ولا تزال امرأة ليست ككل النساء؛ رُقيًّا، هدوءًا، جمال جوهر ومظهر. وكيل أول وزارة بوزارة العمل، ونموذج مضيء في سداد الرأي وتحمل المسؤولية. منها تعلمت أن لا مستحيل في الحياة، وأن بالإيمان والمثابرة والعمل يصبح كل شيء ممكنًا.

أمي، التي أتت من المنصورة إلى القاهرة لاستكمال دراستها الجامعية، كانت فتاة رقيقة هادئة، تحمل ملامح الدلتا الأصيلة وعزيمة الكبار. بعد التخرج، التحقت بالعمل في القطاع الحكومي، وشكلت شخصيتها بين جذورها المنصورية العميقة وأجواء القاهرة المتنوعة. ظلت رغم سنوات العمل والإقامة في العاصمة، متحيزة لبلدها، تحكي عنها بحنين عجيب، وتغرس فينا هذا الحب، حتى صار انتمائي للوطن ينبع من عشقي لمنزلنا، ولأهلي، ولها.

كانت أمي دومًا خير سند لي ولأبي، سواء في غيابه أثناء السفر، أو في حضوره، ولا أنسى موقفًا لن يُمحى من ذاكرتي: كنت طالبًا في كلية الشرطة، وكانت أمي تؤدي العمرة. صادف موعد عودتها إلى القاهرة مع لحظة عودتي للكلية. وعند باب الكلية، طُلب مني الانتظار قليلًا داخل مكتب الأمن. لم أفهم السبب حتى رأيتها، نعم، كانت أمي، لم تستطع الانتظار أسبوعًا آخر دون أن تراني، فأصرّت على أن تأتيني إلى الكلية مباشرة من المطار، لتعانقني لدقائق معدودة. كم أنتِ عظيمة يا أمي.

تأتي أمي أولًا، ثم يجيء بعدُ رجالٌ أثّروا فيّ عميقًا، وكان على رأسهم عمي، اللواء محمد فتح الله سلامة، أو كما عُرف: اللواء فتحي سلامة، أحد رموز جهاز مباحث أمن الدولة، ومن مؤسسيه الأوائل. كان من بين مجموعة “الإسكندرية” التي تصدّت لفضيحة “لافون”، والتي حاولت فيها إسرائيل تفجير منشآت أمريكية على أرض مصر وإلصاق التهمة بالمصريين. نجح عمي وزملاؤه في كشف المؤامرة، وتركوا بصمتهم في تاريخ الأمن الوطني.

كان لعمي أسلوب فريد في العمل: لا عنف، لا تعذيب، بل احتراف وتحقيق واستجواب قائم على المنهج العلمي. زرع في داخلي حب هذه المهنة الصعبة، علّمني أن الأجهزة الأمنية السيادية تعمل بلا انتماء سياسي، هدفها الأوحد هو الدولة — الوطن. وانتقل في حياته من قيادة الجهاز إلى مناصب دبلوماسية ومحافظًا لكفر الشيخ، حتى وافته المنية أثناء أداء واجبه، مخلصًا حتى النهاية.

يوليو 1989
ظهرت نتيجة الثانوية العامة. حصلت على 78%، وهو مجموع أهلني للالتحاق بعدد من الكليات الجامعية. كنت مقبولًا بكلية التجارة الخارجية بالزمالك، لكن قلبي كان يتجه إلى مكان آخر: كلية الشرطة.

من المهم أن يعرف القارئ أن كلية الشرطة جزء من أكاديمية الشرطة، التي تضم عدة كيانات، منها كلية الضباط المتخصصين، وكلية الدراسات العليا، وكلية التدريب والتنمية، ومعهد البحوث، وترأسها قيادة أمنية رفيعة.

في ذلك الوقت، كانت الأكاديمية في العباسية. ذهبت لسحب كراسة الالتحاق، معتقدًا أن الأمر بسيط. لكن بمجرد أن فتحتها، شعرت بثقل المهمة. كانت الكراسة تطلب بيانات موسعة: عني، عن عائلتي حتى الدرجة الرابعة، أسماء، تواريخ ميلاد، عناوين. بعد جهد كبير، وبمساعدة الأهل، أتممتها.

خضعت لاختبارات القبول:
اختبار القدرات (معلومات عامة وذكاء)، وكان لدي زاد معرفي جيد بفضل قراءاتي وسفرياتي.
كشف الطول والصدر، اجتزته.
الكشف الطبي، تم بنجاح.
الاختبار الرياضي وقفزة الثقة من ارتفاع 7.5 متر، كانت لحظة اختبار شخصية، قفزت بلا تردد.
الاختبار النفسي، كان صعبًا، لكنه مر.

ثم جاء كشف الهيئة — جلسة حوار ومصارحة مع لجنة من قيادات الشرطة. لم تكن جلسة تحقيق، بل أقرب ما تكون إلى حوار أسري. خرجت منها مطمئنًا بأنني قدمت نفسي كما أنا.

وربما يتساءل البعض: ألم يكن لك “ظهر” بسبب والدك وعمك؟
أقول: قد يكون، لكنه لم يكن ضمانًا. أردت أن أجرّب، وأُختبر، وأجتهد. فالقبول في هذه المهنة العظيمة لا تصنعه الأسماء، بل يصنعه اليقين فيما يختاره الله.

نهاية الحلقة الثانية

الحلقة القادمة: أول يوم في الزي الميري… وملامح الطريق الجديد.